ربما تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة مؤخرا الأيام الأكثر دموية والأكثر حزنا ويتمثل ذلك في توسيع الاحتلال والترحيل القسري للسكان الاصليين على مدى اكثر من قرن من الزمان والتي تحولت الآن إلى إبادة جماعية حقيقية والتي لازالت مستمرةبالإضافة إلى الخسائر الفادحةالمسجلة في قطاع غزة والتي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف شخص معظمهم من الأطفال والنساء ناهيك عن تدمير كافة البنى التحتية الحضارية والحيوية لكافة مناحي الخدمات في قطاع غزة من سكن ونقل ومياه وصحة وتعليم حيث دمرت بشكل ممنهج بصورة شبه كلية تقريبا.
إن المذابح المستمرة في الضفة الغربية جعلت الأمن والاستقرار هما أساس الحياة اليومية أمرا مستحيلا.
في واقع الامر لقد كانت احدى اهم سياسات الاحتلال الاسرائيلي في غزة والضفة الغربية الأساسية التي ينتهجها هي استهداف الحضور الإنساني و الحضاري في المجتمع الفلسطيني والمتمثل في العلماء والمتعلمين والمثقفين الذين يشكلون البنية التحتية للحياة المتحضرة كونهم ححر الزاوية في التقدم و التطور حيث يتبع الاحتلال سياسة الاستهداف الممنهج لهذه العقول و هذه المقدرات اما بالقتل او الاختطاف او الطرد و تقييد الحريات.
وقدكان الدكتور عمر فروانة أحد هذه الشخصيات المتميزة التي انجبتها غزة وفلسطين وذبحتها إسرائيل و قد كان طبيبًا ناجحا بكل المقاييس حيث قدم مساهمات كبيرة في الرعاية الصحية والتعليمالطبي في غزة ولقد تركت حياته وإنجازاته الأكاديمية وتفانيه المهني والتزامه العميق بالأنشطة الإنسانية بصمة جميلة و ناصعة في غزة والمجتمع الدولي وللأسف فقد انتهت حياته وحياة عائلته في غارة جوية إسرائيلية مما ترك حزنًا عميقًا وفراغًا في قلوب الكثيرين الذين عرفوه واحبوه واحترموه.
ولد الدكتورعمر فروانة في نفس المدينة التي ولد فيها الامام الشافعي رضي الله عنه وهي مدينة غزة في فلسطين في السابع من فبراير سنة 1956 في حي الصبرة، وكان يتمتع بشغف التعلم منذ سن مبكرة و كانت عائلة الدكتور فروانة عائلة غزية تعود جذورها إلى قرون مضت وكان والده الاستاذ صالح فروانة شاعراً فلسطينياً مشهوراً، وقد ألهمت أعماله إحساس الدكتور فروانة بالهوية الثقافية والتزامه تجاه مجتمعه.
وقد تلقى الدكتورعمر تعليمه الاساسي في مدارس مدينة غزة و ظهرت عليه علامات النبوغ بين اقرانه منذ طفولته و دراسته في المرحلة الابتدائية في مدرسة الامام الشافعي وفي مدرسة الزيتون في المرحلة الاعدادية واما المرحلة الثانوية فكانت في مستشفى فلسطين حيث تألق بين اقرانه فالتحق بكلية الطب في جامعة القاهرة في عام 1974و تخرج منها في العام 1982 متفوقا و بمرتبة الشرف وقد حصل الدكتور عمر على درجة الدكتوراة في علم وظائف الاعضاء من جامعة ليدز بالمملكة المتحدة و قد كان دائما حريصا على التطور و طلب العلم حيث ذهب الى استراليا لدراسة امراض العقم والذكورة وعند عودته كان المتخصص الوحيد في هذا الفرع من فروع الطب في غزة و كان لديه شغف شديد في خدمة المرضى وتقديم مساهمة كبيرة على المستوى الاكاديمي والمجتمعي في غزة فلسطين فضلا عن تقديم خدمات طبية فريدة و اساسية.
وقد كان الدكتور عمر يتمتع بشخصية قيادية ونظرة ثاقبة حيث شغل منصب عميد كلية الطب في الجامعة الاسلامية بغزة وساهم في بناء العديد من المؤسسات الطبية الهامة في مجال الرعاية الصحية في غزة وساهم في انشاء جمعية اصدقاء الصبرة وجمعية اصدقاء المريض وكذلك مستشفى الخدمة العامة وكل هذا من شأنه حصول المواطن على خدمات أفضل مما يساعد في تحسين البنية التحتية وخدمات الرعاية الصحية وتقديم خدمات ذات جودة عالية.
وقد كان الدكتور فروانة ملتزمًا بشدة بالتعليم الطب بالإضافة إلى عمله السريري وكان القوة الدافعة وراء إنشاء كلية الطب في الجامعة الإسلامية بغزة وقد مهد عمله مع الدكتور مفيد المخللاتي لإنشاء برنامج طبي متكامل تخرج من خلاله نحبة من الاطباء المتميزين ولقد كان لتفاني الدكتور عمر وشغفه في تعليم وتدريب طلبة كلية الطب والاطباء التأثير الكبير على سلوك واجتهاد طلابه بالإضافة إلى دوره كطبيب ومعلم وعميدا لكلية الطب في الجامعة الاسلامية.
ويتمتع الدكتور عمر بشخصية انسانية وطنية مرموقة وقد كان من بين الفلسطينيين الذين كانوا في مرج الزهور في جنوب لبنان في كانون الاول/ديسمتر1992
أصر الدكتور عمر على المساهمة في خدمة المجتمع نظرا للظروف الصعبة التي يعيشها السكان في قطاع غزة حيث أنشأ عيادة تقدم الرعاية الطبية على مدار الساعة طوال الاسبوع اضافة الى اشرافه على اللجنة الاجتماعية ة الطبية في مخيم اللاجئين في غزة لتقديم العلاج واجراء العمليات الجراحية وعلاج المرضى من مختلف التخصصات لكافة المرضى من لاجئين ومواطنين في مختلف الاحوال والشدائد.
ولم يكن الدكتور عمر طبيبا مهنيا ومتفانيا فحسب، بل كان لديه اسرة سعيدة ومترابطة حيث أكرم رفيقة دربه وأحسن تربية ابنائه واحفاده تعليما وتأدبا واخلاقا.
وفي عام 2921 نشر الدكتور عمر سيرته الذاتية "سيرة ورحلة" تناول فيها محطات مختلفة في حياته العملية من تجارب وتحديات. وقد القى في هذا الكتاب نظرة شاملة على رحلته الشخصية ة المهنية ة قدم نظرة ثاقبة على حياة طبيب وقائد عظيم معطاء.
وقد كان الدكتور عمر دائم الذكر الطيب وفضل والديه في تنشئته وتربيته الصالحة مبينا مدى تفانيه وحبه للوطن وغزة على وجه الخصوص وكان دائما يردد قصيدة والده الراحل صالح فروانة والد الدكتور عمر فروانة والتي يقول فيها مخاطباً غزة:
يا غزة !
حين ينادي المجدُ رفاقَ الدربِ
تلبِّينْ
يا عاصمةَ الفقراءِ
وقاهرةَ الأعداءِ
ومَرفأَ من حملوا منذُ النكبةِ
أمتعةً ما اهترأتْ
وعلى أرصفة العودةِ
يا #غزةَ وقفوا
ملّ الدهرُ وما ملّوا
أو ملّ من الشوق عيونْ
يا صاحبةَ الصَّونِ
ولؤلؤةَ الكونِ
ورُمحاً لا يفتأُ في صدر الغاصب يُدمي
فحمامة عشقٍ إن سكنتْ
وإذا ما انتفضت حطين
قدرك أن تمتهِني الصبرَ
وأن تقفي في وجه هولاكو
شامخةً عذراءْ
يا بنت الفطرة
والتاريخِ الموغلِ في القدمِ
يزولُ الكلُّ
وعلى أنقاضِ الكلِّ
ستبقينْ
وقد كان لدى الدكتور عمر شغفا بالكتاب والتأليف ومن مؤلفاته الاخيرة كتاب نشره قبل فترة استشهاده في عام 2023 بعنوان "سيناريو الحياة - رحلة علمية عبر الانسانية والكون" وفيه يوضح رؤيته للحياة ويلقي الضوء على الجوانب العلمية والفلسفية للحياة ويلفت الانتباه الى الفجوة بين العلم والايمان.
وقد ذكر الدكتور عمر في مقدمته لهذا الكتاب ان ما جاء في فصوله هو محاولاته مشاركة القارئ تجاربه وآرائه خلال رحلته العلمية والعملية حيث يحلل العلاقة المعقدة بين الانسان والكون ويأمل مشاركة القارئ هذا الاحساس وهذه الأفكار ليستكشف اسرار الشمس والقمر والنجوم واعماق الوجود الانساني ة يبين الدكتور عمر ان هذه الرحلة ليست مجرد رواية، بل هي رؤية وبحث عن المعرفة والفهم الادراكي بهدف سد الفجوة بين العلم والروحانية
وفي تاريخ 3 سبتمبر 2014 قامت جامعة اسطنبول مدنيت بتوقيع اتفاقية تعاون مع الاستاذ الدكتور عمر فروانة بصفته عميد كلية الطب العالم والمعلم الذي انار الطريق على كل من حوله باذلا جهودا كبيرة لتحسين النظام الصحي في غزة
استشهد الدكتور عمر فروانة العميد السابق لكلية الطب في الجامعة الاسلامية بغزة في15 أكتوبر 2023 مع ابنته كتيبة الاسرة الدكتورة اية فروانة وزوجته واولاده واحفاده في قصف طائرات اسرائيلية على منزلهم في حي تل الهوى في غزة.
لم يود هذا الحدث المدمر والاليم بحياة طبيب متفان وعائلته فحسب، بل أحدث ضربة قوية للمجتمع الطبي و التعليمي في غزة. لقد ترك فقدان الدكتور عمر وعائلته فراغا كبيرا لا يعوض في قلوب احبتهم من كل من عرفوهم واحبوهم.
لقد ترك الدكتور عمر فراوانة ارثا قيما وعظيما ملؤه التمييزو التفاني والانسانية من خلال مساهماته الجليلة في التعليم الطبي والعلوم الطبية والجهود الانسانية والمجتمعية والتي تركت بصمة لا تمحى في تاريخ شعب غزة وفلسطين.
وستبقى سيرة وذكرى الدكتور عمر فروانة خالدة لعمله الدؤوب وروحه الرحيمة وتأثيره العميق على حياة الاخرين. ان الاغتيال الجبان والشنيع للدكتور عمر فروانة وفقدان ارواح الابرياء يجب ان يشكل دافعا لنا جميعا بـأن نكون في حالة تأهب دائم للصراع المستمر.
لقد تميزت حياة الدكتور الدكتور عمر فروانة وسيرته المهنية العالية بالعطاء والانجازات الاستثنائية والالتزام الثابت بتحسين حياة الناس وكان لأدائه في مجالات الصحة والتعليم تأثيرا دائما على مجتمع غزة وحتما سوف يستمر ارث وتأثيره في الاخرين وفي ذكرى الدكتور عمر نقدم التعازي الحارة لعائلته و اصدقائه وملائه و طلابه و نامل الا تنسى الاجيال القادمة مساهماته الجليلة في الطب و الانسانية.
-اتقدم بالشكر لطبيب الامتياز الدكتور محمد الحجار والصحفي مصطفى الخيسي لمساهماتهم في اعداد هذه الوثيقة
-اشكر الاستاذ الدكتور صبحي سكيك للمساعدة في ترجمة هذه الوثيقة بتصرف من اللغة الانجليزية الى اللغة العربية
المراجع:
-Instagram @braveheartmedicsofpalest 2023. Available at: https://www.instagram.com/p/CzPDOFyCtYt/. Accessed: August 2024.
-Instagram: @braveheartmedicsofpalestine. 2024. Available https://www.instagram.com/p/C1pEOdgim9p/. Accessed: August 2024.